الترجمة هي لغة المستقبل
الترجمة هي "لغة" المستقبل لأنها "اللسان" العالمي، اللسان الناطق بين أي لسانين ليس بينهما رابط، أو الوسيط بين من ليس بينهم لسان مشترك.
وقد استطاعت الأمم والشعوب، بفضل هذه اللغة، أن تتبادل الأخذ والعطاء منذ أقدم العصور، مثرية بعضها بعضا، ومستفيدة من ذلك أشد ما تكون الاستفادة. فلولا ترجمة الآداب لما عبرت الإلياذة وألف ليلة وليلة الأزمنة والأمكنة، ولما استلهم دانتي المعري، ولما استمتع الناس بما أبدعته أقلام سيرفانتس وتولستوي وبلزاك وهمنغواي وماركيز ومحفوظ ودرويش…
ولولا ترجمة العلوم منذ قرون لما انتقلت معارف اليونان وبلاد فارس والهند إلى بغداد، ولما ارتحلت بعد ذلك إلى باليرمو وساليرنو وطليطلة بالأخص، ثم منها إلى باقي ربوع أوروبا، ومنها، أخيرا، إلى أرجاء العالم كافة. ولولا ممارسة الترجمة الفورية لما عُقدت آلاف المؤتمرات والاجتماعات الدولية والإقليمية، ولما أبرمت أعداد لا تحصى من العقود والاتفاقات… ولولا كل ذلك لما اطلع الناس على أساليب معيشة شعوب وأمم مختلفة عنهم، ولما نشأت ألوان من التفاهم والألفة والحوار والتفاهم بين الثقافات، حتى وإن كانت الترجمة تستغل أيضا في سرقة أفكار الغير، والاعتداء على الآخرين، وشن الحروب، وارتكاب المظالم.
لنتصور عالما بدون ترجمة! - افتراض مستحيل؟
لنحصر هذا الافتراض المستحيل في مجال واحد فقط، هو مجال الإعلام. تصوروا إعلاما من دون ترجمة! تصوروا وكالات الأنباء العظمى التي تحتكر نقل الأخبار اليومية بما لا يزيد عن خمس لغات أو ست، منها لغة واحدة (من لغات الشمال) تحظى بنصيب الأسد. ومن هذه اللغات القليلة تنقل الأخبار إلى عشرات، بل مئات من لغات الجنوب…
الترجمة ليست جسرا فارغا بين ضفتين مقفرتين.
الترجمة قناة مليئة بالمعلومات والمعارف التي تنتقل عبرها فتقرب، أحيانا، بين من يرسلها ومن يتلقاها بفضل التفاهم الناشئ عن اكتشاف الآخر وقبول اختلافه. وهذا التفاهم شرط أساسي من شروط السلام.
ولكن الترجمة أيضا قناة مشحونة بالنوايا والأطماع التي تبث الفتنة والفرقة والكراهية، وهي بذلك تتحول إلى أداة للسيطرة والهيمنة، فالنزاع والصراع والتدمير…
بيد أنه لو انقطعت أسباب التواصل بين المجتمعات البشرية بانقطاع قنوات الترجمة لانقلب بنو البشر إلى شعوب وقبائل لا سبيل إلى التعارف والتفاهم بينها، ولأضحت البشرية أشبه ما تكون بمخلوقات من أجناس مختلفة يصعب أو يستحيل أن تقيم علاقات تبادل وتفاهم وتعاون فيما بينها…
بالترجمة يتم التأثير والتأثر، ومن دونها ينقطع حبل التواصل.
أجل، الترجمة ليست لسانا مشتركا "محايدا". وهي ليست دائما وأبدا ذلك العامل الذي يتيح استتباب الأمن والسلم. فهي وسيلة دفاع عن النفس، وأداة هيمنة في الوقت نفسه.
وأيا كان الأمر، فحتى وإن لم تصبح الترجمة لسان الغد، كما نتمنى، فهي ستبقى خط الدفاع الأخير: من لا يترجـِم يُكتسح و يتبد
مَنْ لم ينشأْ على أن يُحِبَّ لغةَ قومِهِ ،
استخفَّ بتُراثِ أُمَّتِهِ ، واستهانَ بخصائصِ قوميَّتِهِ
دعواتي لكم
رشــــــــــا